بدأ المزارع يوسف إبراهيم مقاله من بلدة مورك في ريف حماة، حيث يتردد أبو محمد قبل أن يخطو على أرضه للمرة الأولى منذ عقد. يلمس الرجل البالغ 67 عامًا أغصان أشجاره بحذر، كأنه يعتذر لها عن الغياب الطويل. غادر أرضه عندما التهمت الحرب الأهلية بين نظام بشار الأسد والمعارضة شمال البلاد عام 2011 قريته وكل ما زرعته يداه. “خشيت أن تكون الأشجار اعتادت الغرباء”، يقول، وهو يمرر يده على الجذوع التي تحمل آثار الحرق والإهمال. أُجبر على الرحيل تحت القصف، آملاً أن يعود يومًا، وها هو اليوم يعود ليجد أرضه كما لو كانت مرآة لبلاد أنهكها الخراب.
يشير تقرير تي آر تي وورلد إلى أن قصة أبو محمد تتكرر في حياة آلاف مزارعي الفستق الذين بدأوا بالعودة إلى بساتينهم بعد سقوط نظام الأسد في ديسمبر 2024. ما وجدوه كان رمادًا يغطي تربة أنهكتها 14 سنة من القتال. قبل الحرب، كانت سوريا تحتل المرتبة الرابعة عالميًا في إنتاج الفستق، إذ كانت تحصد أكثر من 63 ألف طن سنويًا من تسعة ملايين شجرة تمتد على 59 ألف هكتار، معظمها في حماة وإدلب وحلب. لكن هذا المجد الزراعي تراجع إلى أقل من النصف اليوم.
بدأ الانهيار، كما يوضح التقرير، ليس فقط بسبب الدمار المادي بل نتيجة سياسات منهجية انتهجها النظام السابق، صادرت أراضي الفارين وباعتها في مزادات علنية لمقربين منه. عبد الرزاق محمد، أحد المزارعين العائدين، وجد أن أرضه في ريف حماة كانت من بين آلاف الهكتارات التي باعتها السلطات عام 2015. “كنت أعيش على أمل العودة، لكن عندما عدت أدركت أنني فقدت أرضي حقًا”، يقول بحزن. تلك المزادات كانت وسيلة لمكافأة الموالين ومعاقبة المنشقين، فحوالي ربع الأراضي المزروعة بالفستق – نحو 170 ألف فدان – دُمر أو نُهب خلال سنوات الحرب.
أبو حسن، مزارع آخر، روى كيف شاهد أشجاره تحترق قبل أن يفر إلى إدلب. لاحقًا اكتشف أن السلطات باعت أرضه عام 2018 وجمعت أرباحها لصالح الأجهزة الأمنية. يقف اليوم وسط بقايا أشجاره قائلاً بصوت متحشرج: “وقفت أمام أشجاري وهي تحترق وشعرت أن قلبي يحترق معها. الآن عدت، لكن الأرض متعبة وأنا أكثر تعبًا منها. أحتاج دعمًا حقيقيًا من الحكومة الجديدة كي أبدأ من جديد.”
وسط هذا المشهد، تبرز القيادة الجديدة في دمشق برئاسة أحمد الشرع، وهو شخصية صاعدة كانت تتزعم هيئة تحرير الشام سابقًا، وتصفه وسائل الإعلام بأنه صاحب رؤية لإعادة الإعمار. وضعت الحكومة الجديدة الاقتصاد الزراعي في صلب خطتها، وبدأت توقّع صفقات استثمارية بمليارات الدولارات مع دول عربية مثل السعودية لإحياء البنية التحتية والطاقة والتجارة، على أمل أن تمتد آثار ذلك إلى الزراعة والصادرات.
يسير حفيد عبد الرزاق، الطفل أحمد ذو الاثني عشر عامًا، بين صفوف الأشجار بجانب جده بحماس، كأنه يحاول إثبات انتمائه إلى أرض لا تكاد تعرفه. يقول مبتسمًا: “أريد أن أعيش هنا طول حياتي، لكني خائف أن تعود الحرب ونضطر إلى الهرب من جديد.” في صوته امتزاج بين الأمل والذاكرة، بين الحنين والقلق، تمامًا كما تبدو سوريا نفسها اليوم.
يرى المهندس الزراعي عبد العزيز عثمان أن 40 في المئة من أشجار الفستق تضررت خلال الحرب، فيما تضاعفت أسعار الأسمدة والمبيدات بسبب العقوبات الاقتصادية، وانهارت شبكات الري تحت القصف. “عودة المزارعين مؤشر حياة”، يقول، “لكن من دون دعم فعلي وتسهيلات تصدير، سيبقى الفستق حبيس الأسواق المحلية، عاجزًا عن استعادة مجده العالمي.”
تزامن هذا مع ارتفاع عالمي في الطلب على الفستق بفضل موجات الحلويات والمشروبات التي غزت أسواق دبي وإسطنبول وأوروبا. غير أن مورك، التي كانت يومًا “خزائن الفستق”، ما زالت تعاني آثار الصمت الذي فرضته الحرب. يقول التاجر مصطفى السطوف: “كانت المدينة تضج بالتجارة، ثم تحولت إلى صحراء من الخوف. الآن تعود الحياة ببطء، ومعها يعود الفستق إلى السوق المحلي.”
لا يمثل الفستق مجرد محصول اقتصادي في سوريا، بل ذاكرة وهوية. الأشجار نفسها صارت شواهد على الحرب: بعضها احترق، وبعضها سُرق، وبعضها نجا بالكاد ليعود إلى الحياة. ومع ذلك، يحمل كل غصن قصة بقاء. يقول أحد المزارعين العائدين دون أن يذكر اسمه: “هذه ليست مسألة فستق، بل مسألة وطن. نسأل أنفسنا إن كانت الأرض ستغفر لنا غيابنا.”
في النهاية، يبدو حصاد الفستق في حلب اختبارًا رمزيًا لإمكانية الشفاء الوطني. فعودة المزارعين إلى أراضيهم تمثل محاولة لاستعادة العلاقة بين الإنسان والأرض، بين الجرح والأمل، بين ما دمرته الحرب وما يحاول السوريون اليوم زرعه من جديد. وبين أغصان الفستق العائدة للحياة، تلوح ملامح سوريا أخرى — خضراء، عنيدة، تحاول أن تنبت من الرماد.
https://www.trtworld.com/article/ec8f40f50068